فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

سورة التكاثر:
قال شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فَصْلٌ:
قِيلَ فِيهَا: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الزَّائِرَ لابد أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ مَزَارِهِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَعْثِ. ثُمَّ قال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فَهَذَا خَبَرٌ عَنْ عِلْمِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا رُوِيَ عن علي أَنَّهُ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ قال.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى عِلْمِهِمْ فِي الْحَالِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أَيْ لَكَانَ الْأمر فَوْقَ الْوَصْفِ وَلَعَلِمْتُمْ أمرا عَظِيمًا وَلَأَلْهَاكُمْ عَمَّا أَلْهَاكُمْ فَإِنَّ الِالْتِهَاءَ بِالتَّكَاثُرِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْيَقِينِ. كَمَا قال: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} وَمِثْلُ قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ كَثِيرٌ فِي القرآن تَعْظِيمًا لَهُ وَتَفْخِيمًا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ أَوْ يُتَصَوَّرَ بِسَمَاعِ لَفْظٍ إذْ الْمُخْبِرُ لَيْسَ كَالْمُعَايِنِ وَلِهَذَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْيَقِينِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ فَقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وَهَذَا الْكَلَامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعَ كَوْنِ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أحد الْقوليْنِ. وَفِي الْآخَرِ هُوَ مُتَعلق بِلَوْ لَكِنْ يُقال جَوَابُ لَوْ إنَّمَا يَكُونُ مَاضِيًا فَيُقال: لَرَأَيْتُمْ الْجَحِيمَ. كَقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَكُونُونَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ فِي طُرُقِكُمْ وَعَلَى فُرُشِكُمْ» وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا فَلَيْسَ مِمَّا يُؤَكَّدُ بَلْ يُقال: لَوْ يَجِيءُ لَأَجِيءُ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ لَوْ. كَقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وَلَهُ نَظَائِرُ فِي القرآن وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي جَوَابَهُ أُجِيبَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ هُنَا الْقَسَمُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَعَلَى هَذَا الْقول يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين لترون الْجَحِيمَ بِقُلُوبِكُمْ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي أَثَرُوهُ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا}، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِهِ فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُعلقا بِالشَّرْطِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهَا عَيْنُ الْيَقِينِ وَالْمَسْأَلَةُ عَنْ النَّعِيمِ لَيْسَ مُعلقا بِأَنْ يعلموهَا فِي الدُّنْيَا عِلْمَ الْيَقِينِ. وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ الرُّؤْيَةِ الْمُطْلَقَةِ بِرُؤْيَةِ الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَيْضًا فَيَكُونُ الشَّرْطُ هُوَ الْجَوَابُ فَإِنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَوْ عَلِمْتُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ لَرَأَيْتُمْ بِقُلُوبِكُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ فَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْتُمْ لَعَلِمْتُمْ وَهَذَا لَا يُفِيدُ وَلَوْ أُرِيدُ بِمُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَهَذَا مَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلِمَ الشَّيْءَ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُشَاهِدًا لَهُ بِقَلْبِهِ. وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مُفِيدًا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْقَسَمَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَائِلِ. وَأَيْضًا فَقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} لَمْ يَذْكُرْ الْمَعْلُومَ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ الْعِلْمُ بِهِ الْعِلْمَ بِالْجَحِيمِ فَإِنْ أُرِيدَ مَعْلُومٌ خَاصٌّ فَلَا دَلِيلَ فِي الشَّرْطِ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ الِارْتِبَاطُ. وَإِنْ أُرِيدَ الْمَعْلُومُ الْعَامُّ وَهُوَ مَا بَعْدُ الْمَوْتِ فَذَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْجَحِيمِ وَغَيْرهَا وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ يَسْأَلُ وَيُقال قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمَعْلُومَ بَلْ أَطْلَقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أحد سَوْفَ يعلم شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَجَوَابُهُ: أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ حَيْثُ افْتتحَهُ بِقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}. وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَعِيدِ غَالِبًا أَوْ فِي الْوَعْدِ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُقَيَّدًا بِالسِّيَاقِ اللَّفْظِيِّ وَبِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ. فَقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} هُوَ ذَاكَ الْعِلْمُ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ مُسْتَقْبَلًا ثُمَّ علق بِوُقُوعِهِ حَاضِرًا وَقَيَّدَ الْمُعلق بِهِ بِعِلْمِ الْيَقِينِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يعلمونَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَيْسَ عِلْمًا هُوَ يَقِينٌ. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ألهاكم التكاثر}
إنه سبحانه أخبر أن التكاثر في جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين في القبور وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا في الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هي الجنة أو النار ولم يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو به واما أرادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا يقربه إلى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة.
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال انتهيت إلى النبي وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا إذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التي كاثر بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره في دنياه ثم عذب به في البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به في الدنيا بأن حصل مع الأسفلين فيا له تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به إلى كل شر يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحيأتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفأتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولا رب استغاث بربه ثم التفت إلى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك إلى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر.
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له في المهلة لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته إلى ما سأل فإنه لا فائدة في ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الأولى كما قال تعالى: {ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذي بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذي بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله ما كانوا يخفون من قبل قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذي ذكروه فتأمله.
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته فلما عاينو العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى في الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه.
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا.
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذي بدا لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا علي باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا إلى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد في عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هي الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه.
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أي ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم.
ولا تستطل هذا الفضل المعترض في أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق فلنرجع إلى تمام الكلام فيها.
وقوله: {كلا لو تعلمون علم اليقين} جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أي لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يشك ولا يمارى في صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى في تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد ف إذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم ** لو يعلمون يقين العلم ما ساروا

وقوله كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون قيل تأكيد لحصول العلم كقوله كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون وقيل ليس تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثانى في القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن علي رضي الله عنه قال ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر قال الواحدى يعنى أن معنى قوله: {كلا سوف تعلمون في القبر}.
الخامس ان هذا مطابق لما بعده من قوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا ف إذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما في جامع الترمذى من حديث عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر عن النبي قال لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعماذا عمل فيما علم.
وفيه أيضا عن أبى برزة قال قال رسول الله «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أبلاه» قال هذا حديث صحيح.
وفيه أيضا من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله «ان أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يعنى من النعيم أن يقال له ألم نصح جسمك ونرويك من الماء البارد».